فصل: مطلب معجزات موسى وأدب الرسل مع أقوامهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب الوزير والوزر دائرة بلطف اللّه بموسى وإجابة مطالبه:

وسمي القائم ببعض الأمور الملكية وزيرا لأنه يحمل عن الملك بعض ثقلها، أما الوزر بفتحتين فراجع معناه في الآية 11 من سورة القيمة المارة، ثم بيّن الوزير الذي يريده بقوله {هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)} قوّ به ظهري وأحكم به قوتي ليساعدني على مهمتي {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)} الذي شرفتني به، وهو الرسالة ليقوم مقامي عند غيابي في إرشاد من أرسلتني إليهم، ويعاضدني في حضوري عند دعوتي إليهم، هذا وإن موسى عليه السلام أول من طلب هذا الطلب من ربه فأجابه:
وإذا سخر الإله سعيدا ** لأناس فإنهم سعداء

{كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33)} أنا وإياه ليل نهار {وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)} وهذه غاية للأدعية الثلاثة في هذه الآية، لأن انضمام فعل هرون لعمل موسى مكثر له ومؤيد {إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيرًا (35)} عالما بأحوالنا مشاهدا لها وإن ما دعوتك به مما يصلحنا ويقوينا، لإنفاذ أمرك ويسهل علينا تبليغ رسالتك، فأجابه جلت إجابته بقوله {قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36)} كله فقد أزلنا العقدة من لسانك ونبأتا أخاك هرون وجعلناه معاونا لك تتقوى به كما طلبت، وهذا دليل كاف على رسالة هرون عليه السلام، فلا وجه لمن نفاها لأن السؤال معاد بالجواب قال تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37)} قبل هذه المنن الثلاث بلا سؤال منك، إذ لم تكن إذ ذاك مميزا إذ كنت في بدء رضاعك، وقد خافت أمك من اطلاع قوم فرعون عليك فيأخذونك ويقتلونك، ثم بين تلك المنة بقوله عز قوله: {إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38)} بأن ألهمناها وأنت جنين حينما كانت خائفة من وضعك أن يكون نصيبك نصيب أمثالك من القتل، حين ولادتك، لأن فرعون كان يقتل المولودين أمثالك، ما يحفظك به منه، فأشرنا لها {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} بعد أن ولدته وقد حفظناك من شرطة فرعون، لعلمنا بأن أمك لا تزال قلقة من أجلك، والتابوت هو الصندوق، واليم البحر بالسريانية والعبرية والعربية، وكل نهر كبير يسمى يمّا كالنيل ودجلة والفرات وغيرها، وقد أعلمناها بأنا حافظوه مما تخاف عليه، ونتيجة هذا الإلقاء وهو {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} لأنا أمرنا البحر أن لا يأخذه بل يطرحه على الشاطئ قريبا من فرعون {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} وهو فرعون إذ يمر قسم من النيل في داره، وكان ذلك، ولما رأى فرعون ذلك التابوت رسا في ساحله، أمر الجواري بإخراجه، فأخرجوه ففتحه فإذا فيه غلام ألقى اللّه محبته في قلبه، بحيث لم يتمالك نفسه وعقله من فرط محبته له، وذلك قوله تعالى {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} وأنساه اللّه في تلك الساعة أمره بقتل الأولاد ليتم مراد اللّه فيه، وأمر بتربيته في حجره، قال تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39)} ترّبى بمرأى مني عند عدوك وعدوّي، وإني مراقبك ومراعيك كما يراقب ويرعى الرجل الحريص شيئا بعينه، ولكن شتان بين مراعاتي ومراعاة عبدي، واذكر يا موسى ترادف منني عليك {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ} مريم بنت عمران وهذه التي شبهت بها مريم أم عيسى عليه السلام في الآية 28 من سورة مريم المارة، لما بين الاثنتين من الشبه في العفة والطهارة والكرامة والمحتد وعلو النّسب والحسب، وذلك أن أمك بعد أن طرحتك في اليم ضاق ذرعها، فأرسلتها لتعرف خبرك لشدة ما حل بها من الخوف عليك، فوجدتك في بيت فرعون يتحرون لك ظئرا، فألهمناها أن تتطفل بالكلام {فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ} يقوم بإرضاعه وتربيته كما تريدون، وذلك لأنه أبى قبول ثدي المرضعات اللاتي أحضرنهن له، كما سيأتي في الآية 12 من سورة القصص، فقالوا لها نعم، فأحضرت لهم أمك، فأخذت ثديها وأعماهم اللّه ربك عن التحقيق عنها فلم يعلموا أنها أمك وهذه أعظم منة عليك وعليها {فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ} على فراقك ولتربيك في حنوها، إذ لا شفقة أعظم من شفقة الأم، إلا رأفة ربك على عباده، ورأفة الرسول على أمته، وَمن جملة ألطافي عليك، أنك بعد أن كبرت {قَتَلْتَ نَفْسًا} من قوم فرعون سنأتي قصته في الآية 69 من سورة القصص الآتية {فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ} الذي لحقك بسبب قتله، وآمنّاك من القصاص {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} في الوقوع من محنة إلى أخرى، لأنك ولدت في السنة التي يذبح بها فرعون المواليد، ثم ألقيت في البحر تخلصا من القتل، ثم التقطك عدوك الذي قتل الألوف ليحظى بقتلك، ثم حرمنا عليك المراضع حتى أحضرنا لك أمك فربتك في بيت عدوك، ثم لطمت فرعون وأخذت بلحيته حتى هم بقتلك، فنجيناك بما ألهمنا آسية زوجته، ثم قتلت القبطي انتصارا لرجل من قومك، ثم هاجرت إلى مدين خوفا من فرعون وآله {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} اسم لجد القبيلة، سميت باسمه وهي واقعة على بحر القلزم محاذية لمدينة تبوك الواقعة بين الشام والمدينة على بعد ست مراحل منها، وقيل هي في كورة مصر أو بين دمشق وفلسطين، وقد شدّدنا هذا التشديد، وامتحناك هذا الامتحان، وغفرنا لك ما وقع منك في الدنيا، وسنثيبك الثواب العظيم في الآخرة ولتعلم بأنا منجوك وناصروك من جميع محن الدنيا، وهذا من نعمتنا الجزيلة عليك تمهيدا للنعمة الكبرى التي هي الرسالة المؤيدة بالآيات العظام والتي يؤول أمرها إلى دار السلام، فنزلت عند نبيّنا شعيب، فزوجك ابنته وأكرم مثواك {ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40)} وهو بلوغك رشدك وأشدك وهو سن الأربعين المقدر في علمنا تتويجك فيه بالرسالة، وكان مكثك عنده ورعيك لأغنامه وتزويج ابنته انتظارا لهذا الوقت والموعد والمكان الذي خصّصته لك لتلقّيها {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)}خاصة فقد اخترتك لتنفيذ أمرى، وأهلتك لتلقي وحيي، وجعلتك قائما بحجتي.

.مطلب لا صحة لما ورد من أن اللّه لم ينبىء نبيا إلا بعد الأربعين:

قالوا كان عمره عليه السلام حين هاجر اثنتي عشرة سنة، وبقي راعيا عند شعيب عشر سنين ثم تزوج بنته في هذه السن، وبقي بعد زواجه ثماني عشرة سنة، ثم أخذها وسافر إلى مصر بعد إكمال الأربعين، وهي السن التي يتمكن معها أمثاله من تحمل خطاب اللّه تعالى، عدا يوسف عليه السلام فإنه نبىء في البير لثماني عشرة سنة من عمره، كما جاء في الآية 22 من سورته ويحيى في السابعة من عمره سمي نبيّا في الآية 12 من سورة مريم المارة، وعيسى نبيّء في المهد كما تشير إليه الآية 30 من سورة مريم أيضا، فيكون عمره واللّه أعلم إذ ذاك أربعين يوما، أي حين مغادرتها بيت لحم محل ولادته، ولهذا فإن ما ورد في الحديث بأن اللّه تعالى لم ينبىء نبيا أو يرسل رسولا إلا بعد الأربعين سنة من عمره لا صحة له لمخالفته نص القرآن كما هو مبين في الآيات المشار إليها، قال تعالى بعد أن أجاب طلبه وعدد نعمه عليه {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ} إلى فرعون وقومه {بآياتي} التي أظهرتها لك والتي سنظهرها بعد علامة على رسالتك {وَلا تَنِيا} تقصّرا أو تفترا أو تنأخرا {فِي ذِكْرِي} 42 بل داوما عليه حال دعوتكما له ومجداني بما يليق بجلالي واذكرا عظمتي وعزتي وكبريائي وصفاتي الجليلة واسمائي الحسنى وأفعالي الجميلة عند تبليغ الرسالة فرعون لكما عليها وهذا ملاك ذكر اللّه {اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى} 43 على عبادي وتجبر عليّ ولكن عند ما تكلمانه تقدما إليه بالنصح وتلطفا به وتعطفا عليه {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} من غير تعسف ولا عنف وقد أجدر بالقبول من جهة، ومن اخرى جزاء حق تربيته لأحدكما وإكراما لمقامه بين قومه، وفائدة أخرى وهي {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} في وعظكما ويتأمل معناه عله يذعن للحق الذي أمرتماه به {أَوْ يَخْشى} 44 عاقبة الأمر فيسلم لكما على رغبة فيما يراه ورهبة مما يتوقعه، وإنما ذكر اللّه رسوله بهذا وأمرهما بالتراخي وعدم الغلظة دفعا للحجة وتقديما للمعذرة، وإلا فهو عالم أنه لا تنفعه الذكرى لأن إرسال الرسل إلى من يعلم أنهم لا يؤمنون لالزام الحجة عليهم، وقطع طرق المعذرة لهم راجع الآية 144 من الأعراف المارة ولمعناها صلة في الآية 134 من هذه السورة، هذا، وقرأ رجل عند يحيى بن معاذ {فَقُولا لَهُ}.. إلخ. فبكى وقال إلهي هذا رفقك بمن قال أنا الإله، فكيف رفقك بمن يقول أنت الإله {قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا} فلا يقبل منا ويعجل عقوبتنا قبل إتمام الدعوة إليه لأن الفرط هو ما يتقدم الشيء {أَوْ أَنْ يَطْغى} 45 علينا فيتجاوز الحد ويقول في شأنك مالا ينبغي أن يقال وهو أعظم من التفريط بحقنا والافراط بما يقع منه علينا {قالَ لا تَخافا} من هذين الأمرين ولا من غيرهما {إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ} دعاء كما فأجبيه {وَأَرى} 46 ما يراد بكما إن كان خير فأمضيه وإن كان شرا فأمنعه {فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} إليك أمرنا أن نقول لك {فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ} بالأشغال الشاقة كحفر الآبار وقطع الأشجار ونقل الأحجار والخدمة الشاقة وغيرها {قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ} عظيمة {مِنْ رَبِّكَ} تثبت صدقنا، وهذا إيذان بأن دعواه الربوبية زور، إذ لا ربّ إلا اللّه، وتنويه بكذب دعواه إياها أمام قومه، لذلك سكت عن هذه الجهة، لأنه يعرفها، وقال لها ما هي الآية، فأخرج له موسى يده لها شعاع كالشمس، فأعرض عنهما ولم يلق لهما بالا ولم يلتفت لتلك الآية، فقالا له {وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى} 47 الذي يأتيه من ربه وليس المراد سلام التحية، إذ لا محل له هنا بل سلام المتاركة المار ذكره في الآية 42 من سورة مريم أي الأمن من العذاب في الدارين لمن يهتدي بالهدى ثم قالا له {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا} من قبل اللّه الذي أرسلنا إليك {أَنَّ الْعَذابَ} في الآخرة {عَلى مَنْ كَذَّبَ} باللّه ورسوله وكتبه {وَتَوَلَّى} 48 أعرض عن ذلك {قالَ} فرعون بعد أن رآهما جاهرا بذلك وعلم أن قومه أصغوا لقولهما {فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى} 49 إضافة إليهما لغاية عتوه ونهاية طغيانه.
وخص موسى لأنه علم أنه الأصل وهرون تابع له {قالَ رَبُّنَا} ربي ورب أخي وربك ورب الناس أجمع {الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} أي أعطى خلقه كل شيء يحتاجونه من أمر دينهم ودنياهم {ثُمَّ هَدى} 50 كلا إلى ما يحتاج إليه وما خلق له، وألهم كل واحد كيفية نفعه وقيل أن خلقه بمعنى صلاحه، أي أعطى اليد البطش، والرجل المشي، والعين النظر، والأذن السمع، واللسان النطق، ثم هدى كلا إلى منافعه من المطعم والمشرب والمنكح والأخذ والعطاء.
وقيل أعطى كل شيء خلقه أي اعطى الرجل زوجة من جنسه، وهكذا كل حيوان، وألهم كلا كيف يأتي زوجته، والأول أولى.
{قالَ فَما بالُ} حال وأصل البال الفكر، يقال خطر ببالي كذا أي فكرت به، ثم أطلق على الحال التي يعتريها وهو مفرد لا يثّنى ولا يجمع، وشذّ قولهم بالآت ومن هذا قول بعض الناس عند خروجه من مجلسهم، خاطركم أي أبقوني في بالكم لا تذكروني إلّا بخير، أي إذا كنت رسولا وتدعي وجود إله غيري أخبرني عن أحوال {الْقُرُونِ الْأُولى} 51 التي كانت تعبد الأصنام وتنكر البعث، لأنا على طريقتهم، وهذا على طريق المحاجّة معهما {قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي} لأنه عليه السلام لم يعلم شيئا عن أحوالهم ولم يعلمه ربه أخبارهم والتوراة لم تنزل بعد عليه لذلك رد العلم إلى اللّه وأكده بقوله إن أخبارهم كلها مدوّنة {فِي كِتابٍ} عند ربي {لا يَضِلُّ رَبِّي} شيئا منها {وَلا يَنْسى} 52 ما يستحقونه من ثواب وعقاب، ونظير هذه الآية في المعنى الآية 45 من سورة الكهف، فهو {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} فراشا ومنه المهد السرير للطفل، فهي مهد الأحياء والأموات {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا} طرقا بين الأودية والجبال كما في السهل ليتيسر لكم المشي فيها {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً} فيه حياة كل شيء لكمال المنافع.
ثم التفت من الخطاب إلى التكلم فقال: {فَأَخْرَجْنا بِهِ} بذلك الماء {أَزْواجًا مِنْ نَباتٍ شَتَّى} 53 مختلف اللون والطعم والرائحة والشكل والمنفعة {كُلُوا} أيها الناس ما تشهون منها {وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ} مما يصلح لها منه {إِنَّ فِي ذلِكَ} الذي ذكرته لكم {لَآياتٍ} عظيمات {لِأُولِي النُّهى} 54 العقول تنهاهم عن عبادة غير الإله الواحد، وعن جحود البعث والنبوة، وتأمرهم بالإيمان بذلك.
وسمى العقل نهى لأنه ينهى صاحبه عما يضره مادة ومعنى، وعقلا لأن يعقل صاحبه عما نهى اللّه ورسوله، وحجى لأن يحاجج به ويدعم حجته لإلزام الخصم، وإدراكا لأن يدرك به الحسن من القبيح والضار من النافع، وحجرا لأنه يحجر صاحبه عن الوقوع في المهالك، والحجر بمعنى المنع.

.مطلب لكل نفس حظ من نشأة آدم، وقبر الإنسان من محل الذرة التي خلق منها:

واعلموا أن هذه الأرض التي فيها منافعكم في الدين {مِنْها خَلَقْناكُمْ} أي خلقنا أصلكم آدم، لأنه من ترابها، أو لأن النطفة من الأغذية والأغذية من الأرض، فيشمل خلقكم منها أيضا أو من ضمن خلق آدم، لأن كل فرد من البشر له حظ من خلقه، لأن فطرته لم تقتصر عليه فهو أنموذج منطو على فطرة سائر البشر انطواء الجنس على أفراده انطواء إجماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل، فكان خلقه منها خلقا للكل، يشهد عليه قوله تعالى: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} الآية 98 من ج 2، راجع تفسير الآية 9 من سورة مريم المارة في هذا البحث.
وقيل إن اللّه تعالى إذا أراد تكوين النطفة من الرحم أمر الملك الموكل بذلك أن يأخذ ذرة من التراب الذي تدفن فيه فيذرها في النطفة فتخلق منها ومن التراب قال تعالى: {وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} الآية الأخيرة من سورة لقمان، لأنها لا تدري من أي ذرة من ذرات الأرض تكونت، وقيل في هذا المعنى:
إذا ما حمام المرء كان ببلدة ** دعته إليها حاجة فيطير

وقال الآخر:
مشيناها خطا كتبت علينا ** ومن كتبت عليه خطا مشاها

وأرزاق لنا متفرقات ** فمن لم تأته منّا أتاها

ومن كانت منيّته بأرض ** فليس يموت في أرض سواها

ومن علم أن اللّه قادر على كل شيء لا يستبعد هذا لأن العقائد لم تقتصر على المحسوسات وليس كل ما يقوله العقل جائزا على اللّه، تدبر قول ابن الفارض رحمه اللّه:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة ** فلي منه معنى شاهدا بأبوتي

{وَفِيها نُعِيدُكُمْ} نقبركم إذا متم كما أن من تأكله الطيور والوحوش والحيتان ومن يموت حرقا وغرقا تضمه الأرض أيضا لا يفلت منها أحد، لأن مصير الكلّ التراب وهو من الأرض حيث تنظم تلك الذرات الطائرة والمأكولة إليها، ثم يعيدها اللّه إلى جسمها يوم البعث المذكور بقوله تعالى {وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى} 55 بعد الموت والاندراس نحييكم للحساب والجزاء، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها} المبينة في الآية 106 فما بعدها من الأعراف المارة التي أظهرها اللّه على يد موسى عليه السلام، وما قص عليه من آيات الأنبياء قبله التي أهلك بها أقوامهم بإلهام من اللّه تعالى بعد ما وقع منه في الآية 52 المارة لأنه لم يكن يعلم شيئا عنها ولم يخبره بها ربه، ودام يدعو فرعون وقومه عشرين سنة ولم ينجع به، حتى أراه آية انفلاق البحر، ولما لم يرتدع أغرقه ومن معه فيه.

.مطلب معجزات موسى وأدب الرسل مع أقوامهم:

ولسيدنا موسى آيات أخر مع قومه بني إسرائيل أولها انفلاق البحر الذي نجاهم اللّه من الغرق فيه وأغرق أعداءهم، ثم ضربه الحجر وانفجاره اثنتي عشرة عينا من الماء ورفع الجبل فوقهم لما أبوا الأخذ بأحكام التوراة والمن والسلوى والغمام في أرض التيه، وإحياء الميت في قضية البقرة، وخسف الأرض بقارون، وآيات أخرى كثيرة نأتي على ذكرها في تفسير الآية 101 من سورة الإسراء الآتية إن شاء اللّه قال تعالى: {فَكَذَّبَ} فرعون ما أريناه من الآيات {وَأَبى} 56 عن الإيمان برسولنا وأصر على كفره {قالَ} محاججا لموسى ومنددا به {أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى} 57 وتتغلّب على مصر وما فيها، ويكون لك ملكها؟ كلا لا نتابعك {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} ندفع به الذي جئتنا به من اليد والعصا لأن هذا كان بعد إراءته هاتين الآيتين، ولهذا قال: {فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا} أجلا وميقاتا نتقابل به ونتبارى {لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكانًا سُوىً} 58 غير هذا المكان عدلا سويا كبيرا لا يحجب الناظرين عما يقع فيه ليشهدوا بما يروا فيظهر الأمر للناس كلهم وإذ ذاك يعلم الغالب أنحن أم أنتم فضرب موسى طلبه ورضي بحكمه و{قالَ مَوْعِدُكُمْ} على جهة التعظيم أو لأن الخطاب له ولملأه، والأول أولى بأدب الرسل لأنهم لا يقابلون إلا بالأحسن ولأن الخبيث يعظم نفسه بكلامه فيقول نحن ولم يقل لموسى أنتم مع أنه أولى منه بالتعظيم من جهة ولأن الخطاب له ولهرون بل قال أنت راجع خطاب سيدنا إبراهيم مع أبيه في الآية 45 فما بعدها من سورة مريم ومخاطبة الأنبياء مع أقوامهم في الآية 58 فما بعدها من سورة الأعراف المارتين {يَوْمُ الزِّينَةِ} العيد حيث يجتمع فيه القريب والبعيد من الحاضرة والبادية ولقب بالزينة لأن الناس يتزينون فيه عادة كل بحسبه وقدرته {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} 59 أي والوقت الذي يجتمعون فيه من ذلك اليوم ضمان لأنه أبعد عن الريبة وأبين للحق حتى لا يقول الناس كان الوقت ليلا فلم نر الغالب أو الوقت حرا فلم نتمكن فيه من الحضور، فرضي فرعون بما ذكره موسى {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ} بعد الموافقة على الموعد والمباراة {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} سحرته الذين يريد بهم كيد موسى {ثُمَّ أَتى} 60 بهم ممتّعين بأدواتهم في الموعد والمكان صباحا واجتمع الناس وجاء موسى وأخوه وتداول مع السحرة وباشر بنصحهم {قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ} ما هي هذه العصي والأخشاب والحبال التي جئتم بها لتقابلوا عظمة اللّه تعالى ارجعوا {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بهذه الأشياء وإنّ شعوذتكم وأخذكم أبصار الناس بدمدمتكم لا تغنيكم شيئا من أمر اللّه الذي هو معي، وإن لم تنتهوا {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ} عظيم لا تقدرون أن تتخلّصوا منه يعدمكم فيه ويهلككم، لأن سحركم بمقابلة آياته بهت وافتراء {وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى} 61 على اللّه الكذب وخسر، فانظروا ما أقول لكم وتداولوه بينكم لئلا يحلّ عليكم عذاب اللّه إن أصررتم على ذلك، وقد أعذر من أنذر.